د. أحمد عبدالعزيز الحداد
ستظل الأُخُوَّة هي الرابطة العالمية للإنسان، تجمَع ما فرقته الديانة أو السياسة أو العنصرية البغيضة أو الطبقية الواهية..، فالكل يعرف أنه أخ للإنسان من حيثُ الجنس والنوع والخاصة والكرامة والشعور بالحاجة لأخيه، والكل ينشد العدل والمساواة والكرامة والأمن والسعادة..
والكل يعرف أنه مخلوق ضعيف فقير يجهل أكثر مما يعلم..
والكل لديه نوازع الخير ونوازع الشر؛ فيمكن أن يتريَّض بالخير حتى يصير طبعاً له، أو يجمح إلى الشر حتى يكون من أهله، كل هذه الأمور تعتبر قواسم مشتركة بين الناس أجمعين، وهي أكثر من عوامل التقسيم التي تطغى اليوم على الساحة الإنسانية؛ فهل يمكن استغلال القواسم المشتركة التي هي بين الناس مسلَّمات من أجل نفع البشرية، ووقايتها من ويلاتها؟
هذا هو باختصار ما هدف إليه مؤتمر الأخوة الإنسانية الذي عُقد يومي 4 -5 من الشهر الجاري بالعاصمة أبوظبي، وبرعاية من القيادة الحكيمة، ونتج عنه وثيقة الإخاء التي وقّع عليها شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة البابا فرنسيس، وهي أول وثيقة إنسانية من رمزي الديانتين الكبيرتين لصالح البشر أجمعين، والتي إن فُعِّلت كان انتفاع المسلمين منها في المقام الأول، فهم الذين يلاقون الويل في بلدانهم، وينالون الشدة والبؤس في مهاجرهم، فتكالب عليهم ظلم القريب وتجهُّم البعيد، حتى أصبح المسلم متهماً قبل الإدانة، ولربما كان الاتهام ملفقاً، فيدان حتماً.
نعم هذا هو حالنا معاشر المسلمين أينما كنا وحيثما حللنا، بسبب أننا مسلمون مسالمون، ولكن غلب علينا سفهاء أفسدوا الأخوة وأشاعوا الذعر وأقلقوا السكينة العامة، ولما كان الإسلام صفة لهم، جعلوا الصفة نعتاً مقيتاً لكل مسلم، ونحن الطرف الأضعف في المعادلة، فلابد من إعادة النظر في حالنا مع غيرنا، والاعتراف بقصورنا نحو من أفسدوا حالنا ومآلنا، والسعي لإعادة اللحمة الإنسانية لوضعها الطبيعي الذي دعانا إليه الإسلام وسار عليه أسلافنا الكرام، وهذه أمنيَّة كل عاقل منا معاشر المسلمين، ولكن لم يسع أحد من قادة المسلمين لمثل ما سعى إليه قادتنا الحكماء الذين نشأوا وشبوا وتعلموا منهج السماحة الإسلامية من مؤسسي اتحاد الإمارات المبارك - عليهم الرحمة والرضوان.
وقد وجدوا بإخلاصهم وسماحتهم الإسلامية المثلى شركاءَ عقلاء حكماء من الأمم الأخرى، يرون أن الإنسانية هي الرابطة الآدمية التي يجب أن لا يختطفها المفسدون في الأرض من أي دين كان، فعملوا معهم على تحقيق هذا الهدف الأسمى للإنسانية الكريمة على الله تعالى، فكان ذلكم المؤتمر الكبير في معناه ومبناه، الذي اتفق فيه المشاركون على كلمة سواء هي السماحة الدينية، المنشئة لحماية الإنسان والأوطان، وعبرت عنها وثيقة الإخاء التي طبعت بالطابع الرسمي من قبل الدولة الراعية بتوقيع قادتها الكبار، وقيادة الدولة السياسية والدينية المتمثلة بالفاتيكان والأزهر الشريف، الوثيقة التي يتعين أن تكون دستوراً إنسانياً أخوياً يُحترم ويوثق في المحافل الدولية المعنية حتى تأخذ طابع الإلزام العام لكل بلد يعيش فيه الإنسان، وعندئذ سيجد الإنسان مُراغماً في الأرض وسَعة إن ضاق به بلده أو نظامه، فلا يبتلعه البحر الطامي، ولا يستغله الإنسان الانتهازي، ولا يموت جوعاً أو مرضاً أو عرياً، ولا يبقى حبيس الجهل والفقر، هذه كلها وغيرها ستكون من ثمار هذه الوثيقة التي يتطلع كل إنسان إلى تفعيلها بحكم الديانة والنُّظم السياسية والدولية.
أما أمور الديانة فإن الخلاف فيها سنة إلهية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، وقد أيَس الله حبيبه ومصطفاه عليه الصلاة والسلام من اجتماع الناس على الدين الحق الذي بعثه به، وعتب عليه شدة حرصه على ذلك، لما كان عليه من رحمته البالغة التي طبعه عليها وبعثه بها، غير أن هذه السماحة والانفتاح على الآخر سيكون لها الأثر الكبير في معرفة الإسلام والدخول فيه رغباً لا رهباً، وحباً لا كراهية، والله غالب على أمره: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.