د. رضوان السيد
هذا العنوان ليس لي، بل هو للباحثة التونسية ناجية الوريمي، وهو عنوان كتابٍ لها صدر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» عام 2015، وكما هو واضح فإنّ العنوان شديد العصرية، لأنّ مفهوم التسامح في طبعته الأخيرة صار يعني الانفتاح على الاختلاف والاعتراف به، بيد أنّ الباحثة الوريمي تضع هذا العنوان ليس لمفهوم التسامح في الأزمنة المعاصرة، بل هو حسبما تقول: بحث في الإشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون، وفي تقديرها أنّ البرامكة الذين أوصلوا، بتدبير كبيرهم يحيى بن خالد البرمكي، الرشيدَ إلى السلطة، كانوا ليبراليين منفتحين يقرُّون الاختلاف الديني والسياسي ويشجعونه، في حين أنّ الرشيد كان عكس ذلك جبرياً متشدداً، جمع من حوله أهل الحديث والتقليد الذين يكفّرون الاختلاف والمختلفين، لذا نكبهم الرشيد عام 187هـ، أي بعد سبعة عشر عاماً من وصوله للخلافة، وهي الأعوام التي توالى فيها يحيى وابناه الفضل وجعفر على الوزارة والمناصب. كتب التاريخ تجعل لنكبة البرامكة ثلاثة أسباب: استئثار البرامكة بأمور الدولة دون الخليفة، والاختلاف في السياسات تجاه الخصوم والحلفاء في بغداد وأنحاء الدولة، وصراعات مراكز القوى من حول الرشيد، والتي نجح بعضها أخيراً في تنحيتهم ونكبتهم. وتعتبر الوريمي الخليفةَ المأمون محيياً لسياسات البرامكة في الدين والثقافة، وهو مؤسِّس بيت الحكمة الذي كان مؤسسة للترجمة عن اليونانية والسريانية وغيرهما، وكان مجلسه يجمع على قدم المساواة أهل سائر الديانات والملل ومُفكريها فيتناقشون في كل شيء، أما استثناؤه من تسامحه أحمد بن حنبل وفريق المحدّثين، والإقدام على إقامة محاكم تفتيش لهم، فترى الوريميي أنّ ذلك مبرَّر لأنهم كانوا أعداء العقل والحرية والاختلاف، وهناك اختلافٌ كبيرٌ في فهم الأحداث التاريخية وتقديرها بيني وبين الوريمي، فضلاً عن ممارسة الاجتزاء، بيد أنّ هذا وذاك ليس ما أريد مناقشته هنا، بل المناقشة في «السلمية» التي كان بها المأمون والمفكرون من أصدقائه يمارسون الاختلاف، وقد كان أحمد بن حنبل أشدّهم سلميةً و«طاعة»، ومع ذلك لجأت السلطة أيام المأمون والمعتصم والواثق، ولجأ بعض المعتزلة إلى ممارسة العنف الجسدي والمادي ضد أهل الحديث، ومنكري خلق القرآن: فأين هو التسامح تجاه الاختلاف؟!
نحن اليوم في خضمّ اجتراح سرديةٍ جديدةٍ للدين، تستجيب للتحديات الكبرى التي ما عادت مواجهتها ممكنةً من دون ذلك، وهنا تواجهنا عدة إشكالياتٍ أريد التعرض لثلاثٍ منها في هذه العجالة، أولى هذه الإشكاليات إمكان إطلاق مفاهيم ومصطلحات التسامح والاعتراف والاختلاف على ما كان يحصل في تلك الأزمنة، ومضاداتها مثل التشدد والتعصب والتمييز وإنكار الاختلاف والحملة على المختلفين، وخلال حوالي مائة عام دأب الإصلاحيون والمثقفون الحداثيون العرب والمسلمون على استخدام مصطلحات مثل المفكرين الأحرار والليبراليين والعلمانيين تجاه الفلاسفة والمعتزلة، لذلك فما كان عمل الوريمي غريباً في تأويل النصوص وإعادة قراءتها، بحيث تنطبق مفاهيم التسامح والاعتراف والاختلاف على بعض الشخصيات والأفكار والتصرفات، ولا تنطبق على البعض الآخر: فهل يصبح هذا «الفهم» بحسب ماكس فيبر قراءةً معتمدةً؟ إنّ المهم هو التسليم بالحق في الاختلاف أو تعدد القراءة، وليس اللجوء إلى مقولة «الضرورة» أياً تكن الإرغامات، أو ندخل مرةً أخرى في القراءات الانقسامية.
أما الإشكالية الثانية، فتتعلق بالعمل من جانب علماء الأمة ومثقفيها على إعادة صياغة «المعروف»، بمعنى العُرف العام، أو ما يتعارف عليه الناس في الفكر والسلوك، ويحب الفقهاء الحديث عن الإجماعات التي تتكون في كل جيل، وهناك أعمال كثيرةٌ خلال أكثر من مائة عام من أجل تبنّي المفاهيم السائدة في العالم، ومن أمثلة ذلك مبادئ ميثاق الأُمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق والعهود اللاحقة، وقد اختلفت الطرائق، فمنهم من مارس عمليات التأصيل لأسلمة هذه المفاهيم، وهذه طريقةٌ فيها مشكلات كثيرة، والذي أراه أنّ الأفضل وبدون اصطناع: اللجوء إلى الاجتهاد النهضوي الذي يراعي المقاصد الكبرى وحسْب، دونما حاجةٍ للارتباط بنص أو حدث.
والإشكالية الثالثة، والتي تنبغي مراعاتها وتقديرها، هي المتابعة الحثيثة الفاهمة والمفسِّرة والمؤوِّلة للمفاهيم ومتغيراتها في العالم المعاصر في بيئاتها الخاصة، والبيئات العالمية، وهي مهمةٌ لا يستطيع القيام بها إلا العارفون من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين بالعصر وتياراته.
لدينا مهمتان حيويتان، وأكاد أقول وجوديتان: العمل على سرديةٍ جديدةٍ في الدين، والعمل على تجديد تجربة الدولة الوطنية التي لا حياة بدونها في عالم العصر وعصر العالم.
أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت